سورة غافر - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


ولما ذكر ما حل بآل فرعون، واستطرد من ذلك إلى ذكر شيء من أحوال الكفار في الآخرة، عاد إلى ذكر ما منح رسوله موسى عليه السلام فقال: {ولقد آتينا موسى الهدى} تأنيساً لمحمد عليه السلام، وتذكيراً لما كانت العرب تعرفه من قصة موسى عليه السلام. والهدى، يجوز أن يكون الدلائل التي أوردها على فرعون وقومه، وأن يكون النبوة، وأن يكون التوراة. {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب}: الظاهر أنه التوراة، توارثوها خلف عن سلف، ويجوز أن يكون الكتاب أريد به: ما أنزل على بني إسرائيل من كتب أنبيائهم، كالتوراة والزبور والإنجيل، {هدى} ودلالة على الشيء المطلوب، {وذكرى} لما كان منسياً فذكر به تعالى في كتبه. وانتصب {هدى وذكرى} على أنهما مفعولان له، أو على أنهما مصدران في موضع الحال.
ثم أمر تعالى نبيه بالصبر فقال: {فاصبر إن وعد الله حق}، من قوله: {إنا لننصر رسلنا}، فلا بد من نصرك على أعدائك. وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. {واستغفر لذنبك}، قال ابن عطية: يحتمل أن يكون قبل إعلام الله تعالى إياه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لأن آية هذه السورة مكية، وآية سورة الفتح مدنية متأخرة، ويحتمل أن يكون الخطاب له في هذه الآية، والمراد أنه إذا أمر هو بهذا فغيره أحرى بامتثاله. وقال أبو عبد الله الرازي: محمول على التوبة من ترك الأفضل والأولى. وقيل: المقصود منه محض تعبد، كما في قوله تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} فإن إيتاء ذلك الشيء واجب، ثم إنه أمرنا بطلبه. وقيل: {لذنبك}: لذنب أمتك في حقك. قيل: فأضاف المصدر للمفعول، ثم أمره بتنزيهه تعالى في هذين الوقتين اللذين الناس مشتغلون فيهما بمصالحهم المهمة. ويجوز أن يكون المراد سائر الأوقات، وعبر بالظرفين عن ذلك. وقال ابن عباس: أراد بذلك الصلوات الخمس. وقال قتادة: صلاة الغداة، وصلاة العصر. وقال الحسن: ركعتان قبل أن تفرض الصلاة. وعنه أيضاً: صلاة العصر، وصلاة الصبح. والظاهر أن المجادلين في آيات الله، وهي دلائله التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة، وما أظهر على يد أنبيائه من الخوارق، هم كفار قريش والعرب. {بغير سلطان}: أي حجة وبرهان. {في صدورهم إلا كبر}: أي تكبر وتعاظم، وهو إرادة التقدم والرياسة، وذلك هو الحامل على جدالهم بالباطل، ودفعهم ما يجب لك من تقدمك عليهم، لما منحك من النبوة وكلفك من أعباء الرسالة. {ما هم ببالغيه}: أي ببالغي موجب الكبر ومقتضيه من رياستهم وتقدمهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يرأسون، ولا يحصل لهم ما يؤملونه. وقال الزجاج: المعنى على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر، لأن الله أذلهم وقال ابن عطية: تقديره مبالغي إرادتهم فيه.
وقال مقاتل: هي في اليهود.
قال مقاتل: عظمت اليهود الدجال وقالوا: إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان، فقال تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله}، لأن الدجال من آياته، {بغير سلطان}: أي حجة، {فاستعذ بالله} من فتنة الدجال. والمراد بخلق الناس الدجال، وإلى هذا ذهب أبو العالية، وهذا القول أصح. وقال الزمخشري: وقيل المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيتهم ذلك كبراً، ونفى أن يبلغوا متمناهم. انتهى. وكان رئيس اليهود في زمانه في مصر موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي قد كتب رسالته إلى يهود اليمن أن صاحبهم يظهر في سنة كذا وخمسمائة، وكذب عدوّ الله. جاءت تلك السنة وسنون بعدها كثيرة، ولم يظهر شيء مما قاله، لعنه الله. وكان هذا اليهودي قد أظهر الإسلام، حتى استسلم اليهود بعض ملوك المغرب، ورجل من الأندلس. فيذكر أنه صلى بالناس التراويح وهم على ظهر السفينة في رمضان، إذ كان يحفظ القرآن. فلما قدم مصر، وكان ذلك في دولة العبيديين، وهم لا يتقيدون بشريعة، رجع إلى اليهودية وأخبر أنه كان مكرهاً على الإسلام، فقبل منه ذلك، وصنف لهم تصانيف، ومنها: (كتاب دلالة الحائرين)، وإنما استفاد ما استفاد من مخالطة علماء الأندلس وتودده لهم، والرياسة إلى الآن بمصر لليهود في كل من كان من ذريته. {فاستعذ بالله}: أي التجيء إليه من كيد من يحسدك. {إنه هو السميع} لما تقول ويقولون، {البصير} بما تعمل {ويعملون}، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.
ثم نبه تعالى أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الانسان بقوله {لخلق السموات والأرض أكبرمن خلق الناس}: أي إن المخلوقات أكبر واجل من خلق البشر، فما لأحد يجادل ويتكبر على خلقه. وقال الزمخشري: وجادلتهم في آية الله كان مشتملة على انكار البعث وهو اصل المجادلة ومدارها، فجحدوا بخلق السموات والأرض، لأنهم كانوا مقرنين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم لا يقدر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها على خلق الإنسان مهانته أقدر، وهو أبلغ من الإستشهاد بخلق مثله انتهى.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث والإعادة، فأعلم تعالى أن ا الذي خلق السموات والأرض قوي قادر على خلق الناس تارة أخرى، فالخلق مصدر أضيف إلى المفعول، وقال النقاش: المعنى مما خلق الناس، إذا هم في الحقيقة لا يملكون شيئاً، فالخلق مضاف للفاعل. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}: أي لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم، ونفي العلم عن الأكثر وتخصيصه به يدل على أن القليل يعلم، ولذلك ضرب مثلاً للجاهل بالأعمى، وللعالم بالبصير، وانتفاء الاستواء بينهما هو من الجهة الدالة على العمى وعلى البصر، وإلا فهما مستويان في غير ما شيء.
ولما بعد، قسم الذين آمنوا بطول صلة الموصول، كرر لا توكيداً، وقدم {والذين آمنوا} المجاورة قوله: {والبصير}، وهما طريقان، أحدهما: أن يجاور المناسب هكذا، والآخر: أن يتقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر، كقوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور} وقد يتأخر المتماثلان، كقوله تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} وكل ذلك تفنن في البلاغة وأساليب الكلام. ولما كان قد تقدم: {ولكن أكثر النار لا يعلمون}، فكان ذلك صفة ذم ناسب أن يبدأ في ذكر التساوي بصفة الذم، فبدأ بالأعمى. وقرأ قتادة، وطلحة، وأبو عبد الرحمن، وعيسى، والكوفيون: تتذكرون بتاء الخطاب؛ والجمهور، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وشيبة: بالياء على الغيبة. ثم أخبر بما يدل على البعث من إتيان الساعة، وأنه لا ريب في وقوعها، وهو يوم القيامة، حيث الحساب وافتراق الجمع إلى الجنة طائعهم، وإلى النار كافرهم ومن أراد الله تعذيبه من العصاة بغير الكفر. والظاهر حمل الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، إلا أن الاستجابة مقيدة بمشيئة الله.
قال السدي: اسألوني أعطكم؛ وقال الضحاك: أطيعوني آتكم؛ وقالت فرقة منهم مجاهد: ادعوني، اعبدوني وأستجب لكم، آتيكم على العبادة. وكثيراً جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة، ويقوي هذا التأويل قوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي}. وما روى النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة»، وقرأ هذه الآية. وقال ابن عباس: وحدوني أغفر لكم؛ وقيل للثوري: ادع الله تعالى، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. وقال الحسن، وقد سئل عن هذه الآية: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله» {إن الذين يستكبرون عن عبادتي}: أي عن دعائي. وقرأ جمهور السبعة، والحسن، وشيبة: سيدخلون مبنياً للفاعل؛ وزيد بن علي، وابن كثير، وأبو جعفر: مبنياً للمفعول؛ واختلف عن عاصم وأبي عمرو. داخرين: ذليلين.
{الله الذين جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً}: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في سورة يونس. و{لذو فضل}: أبلغ من: لمفضل أو لمتفضل، كما قال {لذو عمل} لما علمناه {لينفق ذو سعة من سعته} {والله ذو الفضل العظيم} لما يؤدي إليه من كونه صاحبه ومتمكناً منه، بخلاف أن يؤتي بالصفة، فإنه قد يدل على غير الله بالاتصاف به في وقت ما، لا دائماً، وذكر عموم فضله وسوغه على الناس، ثم قال: {ولكن أكثر الناس}، فأتى به ظاهراً، ولم يأت التركيب: ولكن أكثرهم.
قال الزمخشري: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه، كقوله: {إن الإنسان لكفور} {إن الإنسان لربه لكنود} {إن الإنسان لظلوم كفار} انتهى. {ذلكم}: أي المخصوص بتلك الصفات التميز بها من استجابته لدعائكم، ومن جعل الليل والنهار كما ذكر، ومن تفضله عليكم. {الله ربكم}: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإنشاء الأشياء والوحدانية. فكيف تصرفون عن عبادة من هذه أوصافه إلى عبادة الأوثان؟ وقرأ زيد بن علي: خالق بنصب القاف، وطلحة في رواية: يؤفكون بياء الغيبة والجمهور: بضم القاف وتاء الخطاب. قال الزمخشري: خالق نصباً على الاختصاص كذلك، أي مثل ذلك الصرف صرف الله قلوب الجاحدين بآيات الله من الأمم على طريق الهدى.
ولما ذكر تعالى ما امتن به من الليل والنهار، ذكر أيضاً ما امتن به من جعل الأرض مستقراً والسماء بناء، أي قبة، ومنه أبنية العرب لمضاربهم، لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض. وقرأ الجمهور: صوركم بضم الصاد، والأعمش، وأبو رزين: بكسرها فراراً من الضمة قبل الواو استثقالاً، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ، وقالوا قوة وقوى بكسر القاف على الشذوذ أيضاً قيل: لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان. وقيل: لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله: {في أحسن تقويم} وقرأت فرقة: صوركم بضم الصاد وإسكان الواو، على نحو بسرة وبسر، {ورزقكم من الطيبات}: امتن عليهم بما يقوم بأود صورهم والطيبات المستلذات طعماً ولباساً ومكاسب. وقال ابن عباس: من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: {الحمد لله رب العالمين}. وقال نحوه سعيد بن جبير، ثم قرأ الآية.


أمر الله تعالى نبيه، عليه السلام، أن يخبرهم بأنه نهى أن يعبد أصنامهم، لما جاءته البينات من ربه، فهذا نهي بالسمع، وإن كان منهياً بدلائل العقل، فتظافرت أدلة السمع وأدلة العقل على النهي عن عبادة الأوثان. فمن أدلة السمع قوله تعالى: {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون} إلى غير ذلك، وذكره أنه نهى بالسمع لا يدل على أنه كان منهياً بأدلة العقل. ولما نهى عن عبادة الأوثان، أخبر أنه أمر بالاستسلام لله تعالى، ثم بين أمر الوحدانية والألوهية التي أصنامهم عارية عن شيء منهما، بالاعتبار في تدريج ابن آدم بأن ذكر مبدأه الأول، وهو من تراب. ثم أشار إلى التناسل بخلقه من نطفة، والطفل اسم جنس، أو يكون المعنى: {ثم يخرجكم}، أي كل واحد منكم طفلاً، وتقدم الكلام على بلوغ الأشد. و{من قبل}، قال مجاهد: من قبل أن يكون شيخاً، قيل: ويجوز أن يكون من قبل هذه الأحوال، إذا خرج سقطاً، وقيل: عبارة بتردده في التدريج المذكور، ولا يختص بما قبل الشيخ، بل منهم من يموت قبل أن يخرج طفلاً، وآخر قبل الأشد، وآخر قبل الشيخ. {ولتبغلوا}: متعلق بمحذوف، أي يبقيكم لتبلغوا، أي ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه. قال مجاهد: يعني موت الجميع، وقيل: هو يوم القيامة. و{لعلكم تعقلون} ما في ذلك من العبرة والحجج، إذا نظرتم في ذلك وتدبرتم.
ولما ذكر، رتب الإيجاد، ذكر أنه المتصف بالإحياء والإمانة، وأنه متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده من غير تأخر، وتقدم الكلام على مثل هذه الجمل. ثم قال بعد ظهور هذه الآيات: ألا تعجب إلى المجادل في آيات اله كيف يصرف عن الجدال فيها ويصير إلى الإيمان بها؟ والظاهر أنها في الفكار المجادلين في رسالة الرسول عليه السلام والكتاب الذي جاء به بدليل قوله: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا}، ثم هددهم بقوله: {فسوف تعلمون}، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن سيرين وغيره: هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة، ورووا في نحو هذا حديثاً وقالوا: هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعل قوله: {الذين كذبوا} كلاماً مستأنفاً في الكفار، ويكون {الذين كذبوا} مبتدأ، وخبره: {فسوف يعلمون}. وأما على الظاهر، فالذين بدل من الذين، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً على الذم، وإذ ظرف لما مضى، فلا يعمل فيه المستقبل، كما لا يقول: سأقوم أمس، فقيل: إذا يقع موقع إذ، وأن موقعها على سبيل المجاز، فيكون إذ هنا بمعنى إذا، وحسن ذلك تيقن وقوع الأمر، وأخرج في صيغة الماضي، وإن كان المعنى على الاستقبال.
قال النخعي: لو أن غلاًّ من أغلال جهنم وضع على جبل، لأ رحضة حتى يبلغ إلى الماء الأسود. وقرأ: والسلاسل عطفاً على الأغلال، يسحبون مبنياً للمفعول. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن علي، وابن وثاب، والمسيء في اختياره: والسلاسل بالنصب على المفعول، يسحبون مبنياً للفاعل، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية. وقرأت فرقة منهم ابن عباس: والسلاسل، بجر اللام. قال ابن عطية: على تقدير، إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ، إذ ترتيبه فيه قلب، وهو على حد قول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، وفي مصحف أبيّ: وفي السلاسل يسحبون. وقال الزمخشري: ووجهه أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال، مكان قوله: {إذ الأغلال في أعناقهم}، لكان صحيحاً مستقيماً. فلما كانتا عبارتين معتقبتين، حمل قوله: {والسلاسل} على لعبارة الأخرى، ونظيره قول الشاعر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلا ببين غرابها
كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: وبالسلاسل، انتهى، وهذا يسمى العطف على التوهم، ولكن توهم إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها، ونظير ذلك قول الشاعر:
أحدك لن ترى بثعيلبات *** ولا بيداء ناجية زمولا
ولا متدارك والليل طفل *** ببعض نواشع الوادي حمولا
التقدير: لست براء ولا متدارك. وهذا الذي قاله ابن عطية والزمخشري سبقهما إليه الفراء، قال: من جر السلاسل حمله على المعنى، لأن المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج: من قرأ بحفص والسلاسل، فالمعنى عنده: وفي السلاسل يسحبون. وقال ابن الأنباري: والخفض على هذا المعنى غير جائز، لو قلت: زيد في الدار، لم يحسن أن تضمر في فتقول: زيد الدار، ثم ذكر تأويل الفراء، وخرج القراءة ثم قال: كما تقول: خاصم عبد الله زيداً العاقلين، بنصب العاقلين ورفعه، لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه فقد خاصمه الآخر. انتهى، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين، وهي منقول جوازها عن محمد بن سعفان الكوفي، قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول، وقرئ: وبالسلاسل يسحبون، ولعل هذه القراءة حملت الزجاج على أن تأول الخفض على إضمار حرف الجر، وهو تأويل شذوذ. وقال ابن عباس: في قراءة من نصب والسلاسل، وفتح ياء يسحبون إذا كانوا يجرونها، فهو أشد عليهم، يكلفون ذلك وهم لا يطيقون. وقال مجاهد: {يسجرون}: يطرحون فيها، فيكونون وقوداً لها. وقال السدي: يسجرون: يحرقون.
ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة من جهة التوبيخ والتقريع، فيقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيقولون: {ضلوا عنا}: أي تلفوا منا وغابوا واضمحلوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون: {بل لم نكن نعبد شيئاً}، وهذا من أشد الاختلاط في الذهن والنظر.
ولما تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئاً، وما كانوا يعبدون بعبادتهم شيئاً، كما تقول: حسبت أن فلاناً شيء، فإذا هو ليس بشيء إذا اختبرته، فلم تر عنده جزاء، وقولهم: {ضلوا عنا}، مع قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} يحتمل أن يكون ذلك عند تقريعهم، فلم يكونوا معهم إذ ذاك، أو لما لم ينفعوهم قالوا: {ضلوا عنا}، وإن كانوا معهم. {كذلك}: أي مثل هذه الصفة وبهذا الترتيب، {يضل الله الكافرين}، وقال الزمخشري: أي مثل ضلال آلهتهم عنهم، يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا. ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح، {بغيرالحق}: وهو الشهادة عبادة الأوثان. وقال ابن عطية: ذلك العذاب الذي أنتم فيه مما كنتم تفرحون في الأرض بالمعاصي والكفر. انتهى. و{تمرحون}، قال ابن عباس: الفخر والخيلاء؛ وقال مجاهد: الاشر والبطر. انتهى، فقال لهم ذلك توبيخاً أي إيماناً لكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعاصي وكثرة المال والأتباع والصحة. وقال الضحاك: الفرح والسرور، والمرح: العدوان، وفي الحديث: «إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين» وتفرحون وتمرحون من باب تجنيس التحريف المذكور في علم البديع، وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين.
{ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها}: الظاهر أنه قيل لهم: ادخلوا بعد المحاورة السابقة، وهم قد كانوا في النار، ولكن هذا أمر يقيد بالخلود، وهو الثواء الذي لا ينقطع، فليس أمراً بمطلق الدخول، أو بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا سبعة أبواب التي لكل باب منها جزء مقسوم من الكفار، فكان ذلك أمراً بالدخول يفيد التجزئة لكل باب. وقال ابن عطية: وقوله تعالى: {ادخلوا} معناه: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا، لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم، وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم. وأبواب جهنم: هي السبعة المؤدّية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة. انتهى. وخالدين: حال مقدرة، ودلت على الثواء الدائم، فجاء التركيب: {فبئس مثوى المتكبرين}: فبئس مدخل المتكبرين، لأن نفس الدخول لا يدوم، فلم يبالغ في ذمّه، بخلاف الثواء الدائم.


أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيساً له، وإلافهو، عليه السلام، في غاية الصبر، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق. قيل: وجواب {فإما نرينك} محذوف لدلالة المعنى عليه، أي فيقر عينك، ولا يصح أن يكون {فإلينا يرجعون} جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيب {فإما نرينك} بعض الموعود في حياتك، {فإلينا يرجعون} ليس بظاهر، وهو يصح أن يكون جواب، {أو نتوفينك}: أي {فإلينا يرجعون}، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك. ونظير هذه الآية قوله: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين. وقال الزمخشري: {فإلينا يرجعون} متعلق بقوله: {نتوفينك}، وجزاء {نرينك} محذوف تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب، وهو القتل يوم بدر فذاك، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر، فإلينا يرجعون يوم القيامة، فننتقم منهم أشد الانتقام. وقد تقدم للزمخشري نحو هذا البحث في سورة يونس في قوله: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم} ورددنا عليه، فيطالع هناك. وقال الزمخشري أيضاً: {فإما نرينك} أصله فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن أما تكرمني أكرمك؟ انتهى. وما ذهب إليه من تلازم ما لمزيده، ونون التوكيد بعد أن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج. وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون، وإن شئت أتيت بالنون دون ما. قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون؛ كما أنك إذا جئت لم تجئ بما، يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما، ولم تجئ بما مع مجيئك بالنون. وقرأ الجمهور: يرجعون بياء الغيبة مبنياً للمفعول؛ وأبو عبد الرحمن، ويعقوب: بفتح الياء؛ وطلحة بن مطرف، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح تاء الخطاب.
ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل، وفي عدد الرسل اختلاف. روي أنه ثمانية آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من غيرهم. وروي: بعث الله أربعة آلاف نبي، {منهم من قصصنا عليك}: أي من أخبرناك به، أما في القرآن فثمانية عشر. {ومنهم من لم نقصص عليك}، وعن علي، وابن عباس: أن الله بعث نبياً أسود في الحبش، فهو ممن لم يقصص عليه. {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}: أي ليس ذلك راجعاً إليهم، لما اقترحوا على الرسل قال: ليس ذلك إلى لا تأتي آية إلا إن شاء الله، {فإذا جاء أمر الله}: رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات، وأمر الله: لقيامة. والمبطلون: المعاندون مقترحون الآيات، وقد أتتهم الآيات، فأنكروها وسموها سحراً، أو {فإذا جاء أمر الله}: أي أراد إرسال رسول وبعثة نبي، قضي ذلك وأنفذه {بالحق}، وخسر كل مبطل، وحصل على فساد آخرته، أو {فإذا جاء أمر الله}: وهو القتل ببدر.
ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نِعم فقال: {الله الذي جعل لكم الأنعام}، وهي ثمانية الأزواج، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم، وقول من خصها بالإبل وهو الزجاج. {لتركبوا منها}: وهي الإبل، إذ لم يعهد ركوب غيرها. {ومنها تأكلون}: عام في ثمانية الأزواج، ومن الأولى للتبعيض. وقال ابن عطية: ومن الثانية لبيان الجنس، لأن الجمل منها يؤكل. انتهى، ولا يظهر كونها لبيان الجنس، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية. ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة، إذ فيه منفعة الأكل والركوب. وذكر إيضاً أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، أكد منفعة الركوب بقوله: {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} من بلوغ الأسفار الطويلة، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة، وقضاء فريضة الحج، والغزو، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب، أو مندوب كالحج وطلب العلم، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا. ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات، لم يجعل ذلك علة في الجعل، بل ذكر أن منها نأكل، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، كما أدخل لام التعليل في لتركبوها، ولم يدخلها على الزينة في قوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال: {وعليها وعلى الفلك تحملون}. ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه: حمل في الفلك، كقوله: {احمل فيها} ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله: {وعليها}، وإن كان معنى في صحيحاً {ويريكم آياته}: أي حججه وأدلته على وحدانيته. {فأي آيات الله تنكرون}: أي إنها كثيرة، فأيها ينكر؟ أي لا يمكن إنكار شيء منها في العقول، {فأي آيات الله} منصوب بتنكرون. قال الزمخشري: {فأي آيات} جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه. انتهى، ومن قلة تأنيث: أي قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة *** ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
وقوله: وهي في أي أغرب، إن عنى أياً على الإطلاق فليس بصحيح، لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول: يا أيها المرأة، إلا صاحب كتاب البديع في النحو. وإن عنى غير المناداة، فكلامه صحيح، فقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة، وما في قوله: {فما أغنى} نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي، وما فيما كانوا مصدرية، أو بمعنى الذي، وهي في موضع رفع، والضمير في {جاءتهم} عائد على {الذين من قبلهم}. وجاء قوله: {من العلم} على جهة التهكم بهم، أي في الحقيقة لا علم لهم، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم: {ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً} أو اعتقدوا أن عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء، كما تزعم الفلاسفة. والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. ولما سمع سقراط، لعنه الله، بموسى، صلوات الله على نبينا وعليه، قيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد. وقيل: الضمير في {فرحوا}، وفي {بما عندهم} عائد على الرسل، أي فرحت الرسل بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم. وقيل: الضمير في {فرحوا} عائد على الأمم، وفي {بما عندم} عائد على الرسل، أي فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. وقال الزمخشري: ومنها، أي من الوجوه التي في الآية في قوله: {فرحوا بما عندهم من العلم}، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. انتهى. ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو قولهم: شر أهر ذا ناب، على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل، لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة، فلا يوثق بشيء منها.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد {فرحوا بما عندهم من العلم}: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} ذلك مبلغهم من العلم، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات، لم يلتفتوا إليها، وصغروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. انتهى، وهو توجيه حسن، لكن فيه إكثار وشقشقة. {بأسنا}: أي عذابنا الشديد، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به، وأن ذلك لم يك نافعاً، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان، وتخويف من التأني. فأما قوم يونس، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم، وتقدمت قصتهم.
وإيمانهم مرفوع بيك اسماً لها، أو فاعل ينفعهم. وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في: كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون، لا على النفي، لأنه يؤدي إلى نفي الصحة، إي لم يصح ولم يستقم لقوله: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} وترادف هذه الفاءات، أما في {فما أغنى}، فلأنه كان نتيجة قوله: {كانوا أكثر منهم ولما جاءتهم رسلهم}، جار مجرى البيان والتفسير لقوله: {فما أغنى عنهم}. و{فلما رأوا بأسنا} تابع لقوله: {فلما جاءتهم}، كأنه قال: فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله، وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، أي أن ما فعل بهم هي سنة الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم، وتعذيب من كذبهم واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم. وهنالك ظرف مكان استعير للزمان، أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون. وقيل: سنة منصوب على التحذير، أي احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل.

1 | 2 | 3